من المتحكم؟ العقل أم النفس


في إحدى النزهات الجبلية مع صديقتي وبعد ساعة من السير جلسنا نتأمل الطبيعة. حدّقت طويلاً في شجرة أمامي دون أن ألاحظ الورود البيضاء التي تعلوها. كنت غارقة في أفكار عن البارحة واخطط ماذا سوف أفعل بعد النزهة. وعندها التفتُ فجأة وقلت لها: تخيلي أنني رأيت الورود البيضاء على تلك الشجرة للتو فقط؟
!فأجابتني وهي تبتسم: وأنا لم أرَ الشجرة حتى أشرتِ اليها الان

هل كنا غائبين عن الوعي؟

الواقع أننا نعيش في عالمٍ سريع الإيقاع، محاطين بالتحديات والضغوط اليومية، وغالبًا ما تصبح أفكارنا، دون وعي، القائد الخفي لحياتنا. نصدق كل ما يخطر في بالنا، ونتعامل مع أفكارنا كما لو كانت نحن، فنربط هويتنا بها ونُقيّم أنفسنا بناءً عليها. لكن، هل نحن حقًا أفكارنا؟

في لحظة فارقة من حياتي، بدأت أراقب أفكاري بدلًا من تصديقها. كنت أعيش في دوامة من التوتر والقلق، أغلبها بسبب أفكار سلبية تملأ يومي دون استئذان. وعندما قررت أن أنظر إلى تلك الأفكار من مسافة، لا أن أندمج فيها، بدأ كل شيء يتغيّر

الأمر يُشبه أن تأخذ خطوة إلى الخلف داخل عقلك. أن ترى ما يدور من بعيد، كأنك تشاهد فيلمًا على شاشة. تُلاحظ الفكرة وهي تمر، دون أن تسمح لها أن تجرّك إلى أعماقها. حينها، تشعر بحرية وهدوء لم تكن تتخيلها من قبل. أتذكر هنا قول جلال الدين الرومي: “أنا لستُ هذا الجسد، ولا هذه الأفكار… أنا الروح التي ترى وتعرف” وبالفعل، حين نبدأ بمراقبة أفكارنا، ندرك أننا أكثر اتساعًا منها، وأن وعينا أعمق وأهدأ من تيار الأفكار المتقلب

السبب العلمي

جمال اللحظة يتسرب الى الهواء بسبب انشغالنا المستمر بالتفكير. وهذا ليس عيبًا فينا، بل في البرمجة الطبيعية لعقل الإنسان. من منظور تطوري، دُفع الإنسان إلى التفكير بالماضي ليتعلم من أخطائه، وبالمستقبل ليخطط للبقاء. لكن هذا النمط بات مُبالغًا فيه اليوم، ففي الوضع العادي، نحن لا نعيش تحت تهديد دائم للحفاظ على الحياة والنجاة من خطر مقدم، ومع ذلك يعمل العقل كأنه في حالة طوارئ دائمة

حين قرأت هذه المعلومة، بدأت أدرب نفسي على ما يسمى بـ “الانتباه الكامل”، اتنفس وأرى ما حولي، ابتعد عن الشاشة قدر الإمكان، أبدأ يومي بالسكون، حين تأتي الى بالي فكرة سلبية، أسأل: هل تلك الفكرة حقيقية أم تنبع من مشاعر خوف أو قلق؟ والجواب يأتي دائما بالنفي: ليست حقيقة

النتيجة: استخدام الفكر كأداة لا كقيد

الجميل في الأمر أن التحرر من هيمنة التفكير لا يتطلب انسحابًا من الحياة أو تقنيات معقدة، بل فقط وعيًا بأننا لسنا أفكارنا، بل الوعي الذي يلاحظها. علم النفس المعرفي، خصوصًا في المدارس الحديثة مثل العلاج المعرفي السلوكي، يؤكد أن الأفكار ليست حقائق بل مجرّد تصورات، يمكن مواجهتها، تعديلها، بل وحتى تجاوزها

في النهاية، إذا تحررنا من سطوة الأفكار على النفس، استطعنا أن نعيش اللحظة بكل تفاصيلها دون أن نعلق في دائرة الماضي وقلق المستقبل، فنمضي في درب الإبداع والإنجاز والهدوء الحقيقي، ونوجّه وقتنا وطاقتنا لما ينفع الإنسان والإنسانية

أسماء جهامة 2025

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *