سوف ابتعد قليلا ولن افعل شيئا، لا تخطيط، لا قراءة، لا هاتف، ولا حتى تفكير في ما يجب أن أنجزه بعد قليل فقط سأجلس بصمت. مع مرور اللحظات شعرت وكأن كل التموجات في الماء توقفت، والبحيرة أمامي صارت ساكنة تمامًا.. كان الصمت كثيفًا، يملأ المكان والداخل معًا، وكنت أتنفّس بعمق وكأنني أستعيد نفسي بعد غياب
لحظات الصمت تلك التي بدأت كتجربة شخصية بسيطة، لفتت انتباهي فيما بعد إلى أن ما شعرت به ليس مجرد حالة عابرة، العلم نفسه يؤكد أن الصمت يفعل بالدماغ ما يشبه إعادة الشحن أو التجديد. فقد بيّنت دراسة نُشرت عام 2013 في إحدى المجلات المتخصّصة أنّ بضع دقائق من الصمت، حتى لو لم تتجاوز الدقيقتين، قادرة على تحفيز الدماغ لإنتاج خلايا عصبية جديدة في منطقة الحُصين، وهي المنطقة المسؤولة عن الذاكرة والتعلّم والعاطفة
.الصمت إذن ليس فراغًا، بل بيئة خصبة ينمو فيها العقل من جديد، ويستعيد توازنه الداخلي بعيدًا عن ضوضاء الحياة
وإذا عدنا إلى ثقافتنا العربية، نجد أنّ الصمت كان دائمًا علامة على الحكمة والوعي، يروي الجاحظ أنّ “السكوت ضربٌ من الكلام، بل قد يكون أبلغ”. وفي الموروث الشعبي الذي كبرنا ونحن نسمعه ونردده: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. هذه ليست مجرد أمثال، بل تلخيص لتجربة إنسانية عميقة – أن الصمت يفتح مساحة للإصغاء، ويعلّمنا كيف نسمع أنفسنا قبل أن نسمع الآخرين
كما أنّ التصوف الإسلامي جعل من الصمت وسيلة للتأمل والذكر، فالكلمات تُستهلك وتنتهي، بينما الصمت يبقى فضاءً أوسع يربط الإنسان بجوهره وبخالق الكون
اليوم، ونحن نعيش في عالمٍ مزدحمٍ بالأصوات والصور والرسائل المتسارعة، تبدو العودة إلى دقائق من الصمت كفعل مقاومة صغير، مقاومة ضد التشتت، وضد الاستهلاك، وضد الضوضاء التي تُفقدنا حضورنا – أن نجلس لدقيقتين فقط بلا هاتف ولا حديث، ونصغي لأنفاسنا أو نبض قلوبنا، هو بمثابة تذكير بأننا لسنا مجرد امتداد للضجيج من حولنا، بل كائنات لها عمق وسكينة
،جرّب اليوم أن تمنح نفسك دقيقتين فقط من الصمت
دقيقتان بعيدًا عن الهاتف، بعيدًا عن الأصوات، بعيدًا حتى عن التفكير في ما يجب أن تفعله اجلس بهدوء، تنفّس بعمق، واستمع ستكتشف أنّ الصمت ليس فراغًا، بل امتلاء، وأنك في هذا السكون تستعيد إنسانيتك من جديد
أسماء جهامة 2025
المرجع
Kirste, I., Nicola, Z., Kronenberg, G., Walker, T. L., Liu, R. C., & Kempermann, G. (2013). Is silence golden? Effects of auditory stimuli and their absence on adult hippocampal neurogenesis. Brain Structure and Function, 220(2), 1221–1228

